كان اليوم السادس والعشرون من شهر إبريل (نيسان) عام 1937 هو يوم السوق في مدينة الجورنيكا الصغيرة التي تقع في إقليم الباسك الأسباني.. في هذا اليوم الرهيب قامت طائرات هتلر الحربية التي كانت في خدمة الجنرال فرانكو وحزب الكتائب أثناء الحرب الأهلية الأسبانية، بقصف المدينة الوادعة التي خلت من الرجال لأنهم كانوا جميعا في الجبهة، ولم يبق فيها إلا النساء والأطفال والشيوخ وبعض المدافعين عن المدينة. وقد استمر هذا القصف الوحشي لمدة ثلاث ساعات ونصف بحيث سويت المدينة بالأرض. وقد كان الغرض الأساسي من هذا القصف هو اختبار الآثار التدميرية الناتجة عن نوع جديد من القنابل الحارقة شديدة الانفجار على السكان المدنيين.....
وفي يناير من عام 1937 طلبت حكومة الجمهورية الشرعية من بيكاسو أن يعد لها تكوينًا ضخمًا يصلح كديكور للجناح الأسباني في معرض باريس الدولي... واحتار بيكاسو فيما يمكن أن يرسمه ليحقق هذه الغاية القومية النبيلة. وظل في حيرته هذه حتى حدثت تلك الحادثة الوحشية التي قرر بيكاسو لأول وهلة أن يجعل منها موضوعًا لعمله.
نعم ماكان من بيكاسو إلا أن يصور تلك الآلام الإنسانية وهو الذي عُرف عنه حبه الشديد وعطفه، هذا الطراز من الفنانين لن يقفوا مكتوفي الأيدي ضد من يغتالوا الإنسان ويشوهوه .
بل ستكون ريشتهم وحسهم الإنساني النبيل سلاحا ضد تلك البربرية .
سيصور بيكاسو في لوحته الجرنيكا
بزخم ماهول و رموزا استعصت على بعض المحللين فظائع تلك المذبحة الإنسانية .
لك أن تقف تحت ذلك المصباح المسنن الذي يجرح العتمة
والذي يتوسط اللوحة شاهدا على هذا الطوفان من الألم والحسرات.
سوف تشاهد أم ربما كانت منذ قليل تحمل طفلها وهي تهدهده برفق وتلاعبه في مرح وحبور، وعيناهما تفيض بالحب،ووجنتاهما قد ملأتا بفورة
الحياة ونشيدها العذب
وفي لحظة هي اقصر مما نتوقع يتحول الحلم إلى كابوس !
ويصبح ذلك الطفل جثة هامدة !
وهاهي تحمله بين يديها المرتعشتان المعروقتان صارخة
بملاء روحها من الفقد والألم
صراخا قاتما
صراخا موجعا يخرج من أعماق الروح الإنسانية الذبيحة
والام هي الوطن
هي الأرض !
وقد أثبت التاريخ أن بيكاسو كان على حق؛ فقد جعل من هذه اللوحة العظيمة شاهدًا متوقدًا ينضح بالألم ضد القوة العدوانية البربرية في أي مكان؛ ولذا فإن هذه اللوحة تحمل تحذيرًا للجنس البشري كله ضد الاندفاعات المجنونة التي أطلقت قوى الظلام لتعيث في الأرض فسادًا.
وظلت الجورنيكا باعتبارها صرخة الأرض الثائرة التي تطلب الانتقام حتى الآن رمزًا لذلك المعنى، ولم تفقد أبدًا شيئا من قوتها.