الحب الناجح يقود إلى السعادة والاستقرار، أما الحب الذي يتعرض لسوء الحظ، فإنه يؤدي إلى اليأس من الحياة.. وقد يؤدي إلى الانتحار. والعشاق الذين ينتحرون كثيرون وليس من الصعب تفسير هذا الانتحار، فالعاشق الذي يتعرض لليأس في حبه، يسيطر عليه إحساس واحد بأن حياته من دون الحب لا معنى لها؛ فالحياة مرتبطة بالحب كل الارتباط، بل لعل الحياة عند هذا العاشق تكون هي الحب ولا شيء سواه... ولذلك فإن هذا النوع من العشاق عندما يصطدمون بعقبات تؤدي بهم إلى الحرمان من حبهم، فإنهم لا يترددون في التخلص من حياتهم. وسوف نجد في الأدب العالمي نماذج كثيرة للانتحار الذي يؤدي إليه اليأس من الحب.
ولعل أشهر هذه النماذج "الانتحارية" هو ما أصاب (روميو وجولييت) في مسرحية شكسبير المشهورة، والتي تحمل اسمي الحبيبين الذائعي الصيت؛ فقد انتحر روميو عندما تصور أن حبيبته قد ماتت، وعندما استيقظت جولييت، وتخلصت من تأثير المخدّر الذي استعانت به للتظاهر بالموت، وجدت أن حبيبها قد قتل نفسه، فلم تتحمل الحياة بعده لحظة واحدة، وانتحرت هي الأخرى!
وهكذا مات روميو وجولييت منتحرين احتجاجا على الذين وقفوا ضد هذا الحب وأرادوا له ألا ينتصر، وبذلك كتب العاشقان بدمهما شهادة خالدة تؤكد أن الحب الحقيقي الصادق أوقى من كل العقبات والقيود، وأن الحياة نفسها تهون، أما الحب فلا يمكن التفريط فيه... فالحب قبل الحياة، وفوق الحياة، وأهم من الحياة، وإن كان الأقرب إلى الصواب هو القول إن الحب هو الحياة، وعندما تصبح الحياة خالية من الحب، فلا معنى لهذه الحياة، أو للتمسك بها، والبقاء فيها.
وهذه واحدة من شهيدات الحب، لم نعرفها إلا عندما حدثنا عنها شقيقها الشاعر الكبير نزار قباني، ونزار كما هو معروف للجميع شاعر الحب بكل ألوانه، ابتداء من حب الجسد ومفاتنه المادية... إلى الحب الذي يملأ القلب بالعاطفة، ويملأ العين بالدموع. ولسنا بحاجة إلى أن نقدم دليلاً أو نموذجا من قصائد نزار قباني في التغني بمفاتن المرأة المادية وعشق العيون بألوانها المتعددة، والتعلق بالشعر الغجري وما إلى ذلك، وما هو أبعد من ذلك في قصائده... فالكثير من شعره يعزف على هذا اللحن، ويسبح في هذه الأمواج من الجمال النسائي، أما الحب الذي يملأ القلب بالعاطفة، وأحياناً يدفع بالدموع إلى العيون... فإننا نجده في نماذج محددة، منها تلك القصدية التي كتبها نزار قباني عن زوجته (بلقيس الراوي) التي قضت في فانفجار من الانفجارات الكبرى خلال الحرب الأهلية في بيروت سنة 1982... فقصيدة "بلقيس" كلها عاطفة صادقة مشتعلة، وفيها غضب يشبه العاصفة، وفيها أيضاً الكثير من الدموع الصادقة. وفي هذه القصيدة يرفع نزار لواء العاطفة الإنسانية التي تحب من القلب، وليس العاطفة التي تحركها غمزة عين، أو خصلة شعر تطير في الهواء، أو رائحة عطر يجذب الحواس ويوقظ الفتنة في الأجسام.
نزار قباني يحدثنا عن أخته (وصال) التي انتحرت سنة 1938، وكان نزار في الخامسة عشرة من عمره... ولكن لماذا انتحرت (وصال)؟
يقول نزار في كتابه (قصتي مع الشعر) إن: (في تاريخ أسرتنا حادثة استشهاد سببها العشق. الشهيدة هي أختي الكبرى "وصال" قتلت نفسها بكل بساطة وشاعرية منقطعة النظير لأنها لم تستطع أن تتزوج بحبيبها. صورة أختي وهي تموت في لحمين ولازلت أذكر وجهها الملائكي، وقسماتها النورانية، وابتسامتها الجميلة وهي تموت... كانت في ميتتها أجمل من رابعة العدوية، وأروع من كليوباترا المصرية. حين مشيت في جنازة أختي، وأنا في الخامسة عشرة، كان الحب يمشي إلى جانبي في الجنازة، ويشد على ذراعي ويبكي. وحين زرعوا أختي في التراب، وعدنا في اليوم التالي لنزورها، لم نجد القبر، وإنما وجدنا في مكانه وردة)
ثم يقول نزار قباني بعد ذلك: (هل كان موت أختي في سبيل الحب أحد العوامل النفسية التي جعلتني أتوفر لشعر الحب بكل طاقاتي، وأهبه اجمل كلماتي؟ هل كانت كتاباتي عن الحب، تعويضاً لما حرمت منه أختي، وانتقاماً لها من مجتمع يرفض الحب، ويطارده بالفؤوس والبنادق؟) ثم يقول نزار: (إنني لا أؤكد هذا العامل النفسي ولا أنفيه)... ولكننا من جانبنا نؤكد هذا العامل النفسي، ونقول: إن إمبراطورية نزار الشعرية التي بناها للمحبين والعشاق، قد قامت في البدء على استشهاد أخته الكبرى وصال في سبيل الحب