جسر بنات يعقوب
تبدأ رواية "جسر بنات يعقوب" للكاتب الفلسطيني "حسن حميد" بالراوي: يعلق لنا شارة البدء.
يبتكر حيلة فنية بارعة وأخاذة ـ فنحن أمام كتاب قديم ورثه عن أجداده وتم العثور عليه في خزانة كتب جدّه الرابع عشر... العلامة المقدس إلياس المشنذوري" الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي ـ أيام المماليك ـ (وذلك يعد بشيراً بحكاية حقيقية تمتد جذورها إلى وقائع التاريخ). ونصلها إلى الحاضر ـ إلى الواقع.
وفي الكتاب تاريخ حياة المهاجر يعقوب وبناته ـ وقد عاشوا بجانب الجسر العتيق المبني على نهر الأردن بالقرب من قرية الشماصنة.
ومنذ البداية أيضاً نشعر بأننا نثق بالراوي وبالحكاية وأن الأحداث والشخصيات تستولي علينا وتفرض نفسها وتصبح الشخصيات لها حقيقة ذاتية تفرض أسطورتها ووجودها الحي. وأن الجسر يبدو كقاعدة أساسية درامية ينطلق منها الحركة وتتصاعد الأحداث وتتراءى الأحلام والأوهام وتنبه إلى التأمل والتدبر.
ينقلنا إلى الدير ـ ندخل إلى عالمه...
ونعرف أسراره وننصت إلى اعترافاته. نكتشف أن الرهبان الثلاثة فيه ـ راهبات. نساء ثلاث اعتزلن العالم ويقمن بالخدمة في مملكة الرب بعد ما حدث لهن.
وكلها قصص حب لم تكتمل ـ عواطف دافقة لكنها تقابل بالخداع والهجر والبعاد.
تبدأ حكاية يعقوب بمجيئه وبناته وحماره إلى قرية الشماصنة وعلى مبعدة من بيوت القرية وبقرب النهر حط الرحال. وبعد ساعات قليلة ارتفع كوخان واستحمت البنات الثلاث في النهر ويعقوب يغمغم بكلمات غامضة ثم يفاجئ البنات بضرورة ذبح أضحية ليبارك الرب المكان.
يكشف حسن حميد أعماق الوجود اليهودي وكيف التسلل إلى المجتمعات وإبداء الذلة والمسكنة ثم الاستيلاء على كل مقومات الحياة. مع التظاهر بالتدين الشديد وتلبية رغبات الرب والإمعان في القتل والسلب. وهو يصور الشخصية بدقة وصدق ويجعلها تنطق بمنطقها الخاص.
يصر على ذبح إحدى بناته ـ والبنات في خوف وفزع وبكاء... ثم يلين فيذبح الحمار.
يحب الكاتب حسن حميد أن تكون طريقته في السرد على نسق كتابه كتب التاريخ القديم ـ فهو يقدم للحدث... كوثيقة ومصدر مرجعي لوقائع الرواية ـ ويتبع ذلك بالهوامش والحاشية والتعقيب والتذيل الصغير. وكأنها طريقة التقطيع السينمائي الحديث ـ فالتعليق أحياناً يكشف الوجه الآخر للحدث ـ ويجسد الصورة من كل جوانبها... ويكشف عن رؤية جديدة.
يبرع بموضوعية نادرة في تحليل شخصية يعقوب تسأله ابنته الكبيرة "جوديت": لماذا لا يتزين أو حتى يبدو بمظهر لائق أمام أهل القرية: وتكون الإجابة الحقيقية ـ فهو لا يريدهم أن يطمعوا به و"بالمسكنة" يكسبهم إلى الأبد" فهم أهل عاطفة يشاهدون فينفعلون".
يعرفهم بنفسه ـ تحدث عن مهاراته والأعمال التي يتقنها وأسباب العلاج وفنون الحلاقة ـ وهو يعرض بضاعته بذكاء وتواضع حتى يستولي عليهم تماماً ـ ثقتهم وأموالهم واحتياجهم الدائم إليه ـ في كافة أمورهم ومعيشتهم ـ لقد كسب أشياء كثيرة ونال منافع كبيرة في خروجه الأول إلى القرية ـ انهالت عليه العطايا والهبات وجرار الزيت والقمح والشعير والدجاج. ووعدهم برد ما اقترضه عندما يستقر ويبدأ عمله.
شخصية غريبة ومثيرة ظهرت وقطعت الطريق على يعقوب وعاتبته أن يضحي بالحمار ـ وطلبت أن تبارك الزيت. عجوز بيضاء الشعر قوية ـ صلبة ـ لا نعرف إن كانت وهماً أو حقيقة.
خرجت البنتان لاستكشاف المنطقة...
وقدم حسن حميد لوحة نابضة بالجمال والحركة وتعانق الأغصان وخرير الماء والطيور ورائحة الأعشاب... وظهر "رحمون" شاب جميل ـ عاشق ـ ذهب عقله حين هربت حبيبته.
وكان اللقاء في الماء، وسحر المكان ـ يسميه سرير النبع ـ عندما عادت الفتاة مع أبيها ـ ذهبت لتأخذ نصيبها وتستحم في النهر.
*لدى الكاتب شغف بالطبيعة وقوى الجمال وينافس د. هـ. لورنس عندما يمارس العشاق الحب بين أحضان الطبيعة.
يلتقي بـ"سليمان عطارة" الذي جاء القرية بائعاً متجولاً... ثم استولى على المعصرة وتوسع في عمله "وأصبحت القرية له" كما يقول.
قصّة مثيرة... كيف شارك في المعصرة... ودفع أجر العمال... وأدارها حتى استولى عليها. "لقد تركت ديني أمام أهالي القرية كي أعيش".
ـ ويردد في "حاشية" يعرف الأهالي أن ابنة سليمان الشقراء الجميلة "وردة" هي التي ضيّعت صاحب المعصرة ـ وجعلته يعطيها لـه بلا مقابل"، ويعرف أهل القرية كذلك أن سليمان عطارة بكى هرب ابنته لأنها لم تفتح لـه جميع القرى. كذلك انكشفت قصة زوجته "راحيل".
وبدأت قصة صعود يعقوب ـ يفكر في بناء خان على رأس الجسر ـ واليهودي سند لأخيه ـ ورغم الحب والتضامن معاً "إلا أن سليمان يريد يعقوب تابعاً لـه وأخيراً تتم صفقة: يجهز سليمان الخان ويتزوج جوديت.
وأمام "تفصيل صغير" نكتشف "نانا" ابنة يعقوب التي قُتلت وزوجوها من ثري عجوز ـ وخففت أمها من أحزانها فالسيد كثير السفر وعليها أن تجد سعادتها بعيداً عنه حتى اكتشف أمرها فقتلها.
ورغم تشعب الحكايات والقصص الجانبية إلا أنها تساند الحدث الرئيس ـ وتؤكد التصرفات والسلوك أمام هدف جمع المال وبأي طريقة كانت.
تنشق الساحة عن العجوز الساحرة مرة أخرى تطلب من سليمان مساعدة يعقوب "الجسر سيصبح بوجود بنات يعقوب البقرة الحلوب لجلب المال.
تطلب منه أن يذهب إلى بيت سمعان المعمار ليبني الخان ـ ذهب ووجده في الانتظار.
من هي الساحرة العجوز التي يصل صوتها إليهم وتحدد لهم الوجهة والحركة؟
هل هي ضميرهم الجمعي ـ بوصلتهم الداخلية ـ تشير إلى الاتجاه الذي يوصل إلى المال ـ تبدو كنوع من الإلهام.
في الحقيقة فإن حسن حميد يملك شجاعة الخيال.
ومن خلال قص شيق ومتقن ـ نجد بعض الأشياء تظهر وتختفي مثل كوخ السيدة والأشجار من حوله ـ حتى ليسأل سليمان ـ هل كان حلماً أم كابوساً ما رآه؟
حركة صاخبة وأحجار وبناء أمام بيت يعقوب نجد سيدة من القرية تبكي من ألم أسنانها ـ ويقول لـه سليمان أن يستعجل في علاجها ـ فهي شاعرتة ـ ويعقوب أشد وأقسى ـ يتركها تتألم لتعرف قيمة علاجه.
منطق خبراء التعذيب والرغبة في الكسب بعيداً عن المبدأ الإنساني والأخلاقي.
يعود حسن حميد ليذكرنا بخريطته الفنية التي أعدّها وتقليب صفحات الكتاب لسرد لحظات من الرواية الكتاب قديم أصابه البلل وأصبحت بعض الصفحات خضراء وسوداء بعض السطور الواضحة فيها حديث "عن شاه يقدمها يعقوب من مال سليمان وقيدة للرب".
وحديث عن دعامة لتثبيت الجسر من طرفه الغربي وجعله متحركاً من طرفه الشرقي يعلق في الهواء بحبل بحيث لا يمر فوقه إلا من يدفع. وعين حارساً شرساً.
استولوا على الأرض والنهر والجسر وإجبار الناس على الدفع.
ما زلنا نتطلع للقراءة في صفحات هذا الكتاب القيم. ونكمل الحكايات والأخبار ـ ونتعرف على الطباع والأحوال وتتضح لنا أهمية الكتاب وتوثيق صفحات التاريخ ـ نستدعيها لقراءة الحاضر أيضاً وإدراك درس التاريخ.
حسن حميد الكاتب والفنان يدرك أن عملية التاريخ تراكمية ويجري التاريخ أمامه ـ فالجسر والخان والبيوت الحجرية الصلبة التي تبدو غريبة على القرية ـ كأنها تكوين شائه وسط الطبيعة الخلابة ـ ولابدّ من الانعزال بعيداً عن القرية لأن الآخرين مثل الضوء يكشفون الأعماق وسوء النيات.
لم يأت أحد لينزل في الخان ـ أصبح معقلاً لطقوس يعقوب في العلاج وطهور الأطفال والحلاقة وجز صوف الغنم وفك عجز الرجال وعقم النساء.
تعرّت نساء القرية والقرى المجاورة أمام يعقوب إلى أن هرس أحد الأزواج رأس يعقوب فمات.
وانطلقت بنات يعقوب في غرف الخان كل واحدة تبني مشروعها الخاص... ذبل الجمال وجاء للخان عصاه وحماه... قيل يذهبن في الليل الأخير إلى المقبرة ـ يقمن مناحة ـ يبكين ـ لا من أجل التطهر أو الغفران ـ لكن يبكين الأجنة التي لم تصل أبداً إلى الولادة والخروج إلى الحياة.
ثبت الأهالي طرف الجسر وأعادوه كما كان قبل مجيء يعقوب وبناته بدا كل شيء مثل الحلم أو الكابوس الطويل، حلم لم يصرف أهالي الشماصنة عن مواصلة الحياة.
عن مقالة لفوزية مهران - مجلة افق الثقافية